رسالة أوجلان- تحول استراتيجي وتداعيات إقليمية على القضية الكردية.

المؤلف: عريب الرنتاوي09.15.2025
رسالة أوجلان- تحول استراتيجي وتداعيات إقليمية على القضية الكردية.

من جزيرة إمرالي المنعزلة في بحر مرمرة، أطلق عبدالله أوجلان، الأسير ذو الصيت الواسع، مبادرة غير مسبوقة، ستترك آثارًا عميقة تتجاوز حدود تركيا لتصل إلى المنطقة بأسرها.

ستؤدي هذه المبادرة إلى تحولات في موازين القوى الكردية في مختلف البلدان، وإعادة ترتيب الأولويات ووجهات النظر، مما سيؤثر على توجهات القوى الإقليمية والدولية، خاصة في المناطق الأربع التي تشكل "القضية الكردية".

من بين الزعماء الثلاثة البارزين في الحركة الكردية في المنطقة، وهم طالباني والبارزاني وأوجلان، يمتلك الأخير نفوذًا استثنائيًا وشعبية جارفة.

فقد ترسخت تأثيرات مؤسس حزب العمال الكردستاني، الذي تأسس قبل خمسة عقود، في الأوساط الكردية في سوريا والعراق وإيران، بالإضافة إلى تأثيره الكبير على الأكراد في المهجر.

لذا، من المتوقع أن يكون للرسالة التي وجهها أوجلان إلى حزبه صدى واسع في جميع المكونات الكردية، مما يثير تفاؤل البعض وقلق البعض الآخر.

تمثل الرسالة حصيلة مراجعات شاملة وعميقة أجراها أوجلان في سجنه منذ عام 1999، والتي تضمنت كتبًا عديدة تعكس تحوله نحو مفهوم "الأمة الديمقراطية"، وتخفيف الخطاب القومي المتطرف الذي كان يشجع على المشاريع الانفصالية، مثل الفدرالية وتقرير المصير والإدارة الذاتية.

عبدالله أوجلان، الذي كان يساريًا ماركسيًا لينينيًا، يدعو في رسالته إلى نبذ العنف ووقف الكفاح المسلح، بل ويطالب بحل حزب العمال الكردستاني ومواصلة العمل السياسي بأسماء أخرى، وهو تطور نوعي سيغير قواعد اللعبة.

القصة باختصار

مع وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة في عام 2002، بدأت مرحلة جديدة في العلاقات التركية الكردية، حيث أصبحت "القضية الكردية" موضوعًا للنقاش والبحث.

في أكتوبر 1998، زرت أنقرة بدعوة من وزارة الخارجية التركية، وتزامن ذلك مع توقيع اتفاق أضنة.

أثناء لقائي بوزير الخارجية التركي آنذاك، إسماعيل جيم، سألت مرافقتي من وزارة الخارجية عن الموضوعات التي يجب تجنبها في لقاءاتي مع المسؤولين الأتراك، فأجابت قائلة: "أنصح بعدم السؤال عن دور الجيش في السياسة وعن القضية الكردية"، إلا أنني لم ألتزم بهذه النصيحة وحرصت على إثارة هاتين المسألتين في كل لقاء.

يبدو أن حزب العدالة والتنمية لديه قواسم مشتركة مع أكراد بلاده أكثر من أسلافه العلمانيين والقوميين والعسكريين، وشهدنا سنوات من التقارب ترافقت مع صعود الحزب وازدياد الأصوات المؤيدة له.

إلى أن وصلنا إلى انتخابات يونيو 2015، التي لم يتمكن الحزب من الفوز فيها بأغلبية كافية لتشكيل حكومة جديدة، فتقرر إجراء انتخابات مبكرة في نوفمبر من العام نفسه، وبالتحالف مع الحركة القومية التركية بزعامة دولت بهجلي، المعروف بمواقفه المناهضة للحركة الكردية، لتبدأ مرحلة جديدة من المواجهة العنيفة في جنوب شرق الأناضول، وتعود العلاقات التركية الكردية إلى سابق عهدها.

لكن ذلك لم يمنع أكراد البلاد من المشاركة في الانتخابات وتشكيل الأحزاب السياسية وتحقيق مكاسب انتخابية، ولم تمنع الاعتقالات والملاحقات لنوابهم ورؤساء بلدياتهم استمرار حضورهم في الحياة السياسية.

نقطة تحوّل

في 22 أكتوبر الماضي، أي قبل سقوط نظام الأسد بستة أسابيع، اقترح دولت بهجلي دعوة عبدالله أوجلان لمخاطبة البرلمان التركي والإعلان عن وقف "الإرهاب" وحل حزبه.

أثارت مبادرة زعيم الحركة القومية العديد من التساؤلات، خاصة وأنها صادرة عن أحد أشد خصوم الحركة الكردية، مما أثار الشكوك حول أهدافها ودوافعها وتنسيقها مع حزب العدالة والتنمية والرئيس التركي رجب طيب أردوغان.

بعد 48 ساعة فقط، ضرب الإرهاب أنقرة، مستهدفًا قلب الصناعة الدفاعية التركية، وتجددت الاتهامات بالسعي لإفشال مبادرة بهجلي وقطع الطريق على المصالحة الوطنية، مما أدى إلى تجدد العمليات العسكرية التي طاولت جبال قنديل وأطراف العراق وسوريا.

لكن ما نستنتجه من الرسالة القادمة من سجن إمرالي في 26 فبراير الماضي، هو أن قنوات الاتصال بين الجانبين لم تنقطع، على الرغم من المعارك والتفجيرات، وأن رسالة أوجلان ليست سوى الجزء الظاهر من هذه الاتصالات والتفاهمات.

لم ينتظر المراقبون رد قيادة حزب العمال الكردستاني وقيادة قنديل على دعوة أوجلان طويلًا، فقد صدر بيان عن اللجنة التنفيذية للحزب يعبر عن تأييده التام للمبادرة، ويطالب سلطات أنقرة بتسهيل انعقاد مؤتمر الحزب وبمشاركة أوجلان شخصيًا، بعد إصدار قرارات العفو والإفراج عن معتقلي الحزب وقياداته، بمن فيهم معتقلو حزب الشعوب الديمقراطية وعلى رأسهم صلاح الدين دميرتاش.

إذن، نحن أمام بداية تحرك جدي نحو تحقيق السلام الأهلي في تركيا، على الرغم من العقبات والتحديات، وذلك بفضل البيئة الداخلية والجيوسياسية في تركيا ومحيطها.

فقد ألقى أوجلان كلمته، واستجابت قيادة الحزب لندائه، وأعلنت الالتزام بإلقاء السلاح وإنهاء الكفاح المسلح وحل الحزب، واستبدلت أهداف الانفصال والفدرالية بمطالب الاندماج الكامل والمواطنة المتساوية، وهي تطورات من شأنها تبديد المخاوف بشأن الوحدة الترابية للبلاد وسلامة نسيجها الاجتماعي.

في المقابل، تحتاج الدولة التركية إلى ترتيب أوضاعها الداخلية لمواجهة التحديات الإقليمية، خاصة على حدودها الجنوبية، مع وجود "جيب كردي انفصالي" قد يتحالف مع "الشيطان" لحماية مصالحه.

أما حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا منذ 23 عامًا، فقد حقق فوزًا غير كبير في آخر انتخابات، ويواجه زعيمه نهاية ولايته الرئاسية، وتتحدث المصادر في أنقرة عن مصلحة الحزب في تجديد شعبيته وقواعده الانتخابية لمواجهة التحديات القادمة، وعن رغبة زعيمه في تعديل الدستور لتمكينه من ولاية رئاسية إضافية.

أكثر من أربعين عامًا من العنف المسلح أزهقت أرواح أكثر من 40 ألف تركي وكردي، وتسببت في خسائر مادية تقدر بعشرات المليارات من الدولارات، ولم ينجح الحزب الكردي في تحقيق أهدافه، بل بدا أنه يخسر المزيد من الأرض والشعبية، ولم تتخلص الدولة التركية من شبح "الإرهاب".

تقف تركيا اليوم على أعتاب مرحلة جديدة عنوانها السلام الأهلي وترتيب البيت الداخلي والاستعداد لتحديات الخارج.

لكن ذلك لا يعني أنه لن يكون هناك متضررون من هذا المسار الجديد، وستكشف لنا الأيام القادمة المزيد من التفاصيل.

هؤلاء المتضررون لن يستسلموا بسهولة، ولكن يبدو أن قوة الدفع التي يتمتع بها هذا المسار السياسي ستكون كافية لإزالة العقبات وتذليل الصعاب.

شظايا تتطاير

أكثر المتضررين من هذه التطورات المتسارعة هم قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، التي تعتبر العمود الفقري للحركة الكردية في شمال سوريا، والتي فقدت حليفًا موثوقًا به في الميدان.

سيتعين على "قسد" بذل المزيد من الجهد لتبرير استمرارها في حمل السلاح والتمسك بشروطها للاندماج في الجيش السوري الجديد، والتخلي عن أحلامها في الفدرالية والإدارة الذاتية.

كما سيتعين عليها التخلي عن الاستقواء بالأجنبي، أمريكيًا كان أم إسرائيليًا، فسوريا الجديدة وتركيا ما بعد المصالحة في وضع أفضل لإحباط أهدافها.

فقد رسم بيان أوجلان، الذي قالت "قسد" إنها ليست معنية به، حدودًا لطموحات الأكراد في سوريا، وقيودًا على أدوات كفاحهم، ووضع طريقًا سيساعد "قسد" على الاندماج في الدولة السورية والعمل على تحقيق السلام الأهلي والمجتمع الديمقراطي.

بخلاف ذلك، ستواجه الحركة الكردية سلسلة من الانشقاقات، وستزداد قوة أنصار المدرسة البارزانية، المقربة من أنقرة والحليفة لحزبها الحاكم، ومن المتوقع أن تختل التوازنات في إقليم كردستان العراق كذلك.

كما أن إسرائيل هي ثاني أكبر الخاسرين من التطورات الأخيرة للقضية الكردية في تركيا، لأنها تجردها من ورقة يمكن أن تستخدمها ضد أنقرة.

أما بالنسبة لإيران، فإن لرسالة أوجلان وقعًا مزدوجًا عليها، فمن جهة أولى، تخفف عنها عبء حركة كردية إيرانية، ومن جهة ثانية، فإنها قد تؤثر على رهان إيران على "قسد" لمواجهة النظام السوري الجديد.

وقد استقبلت واشنطن، الحاضر الأكبر في شمال شرق سوريا، بيان أوجلان بترحيب رسمي، لأن ذلك قد يسرع في تنفيذ مهمة سحب القوات الأمريكية من تلك المنطقة.

ورسالة أوجلان، إن استجابت لها أنقرة بصورة جذرية، فسترسم حدودًا للحركات الكردية في المنطقة، ولن يكون ممكنًا بعدها التفكير في مشاريع انفصالية تحت أي مسمى.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة